مقالات

السيستاني وعراق مابعد السقوط ( 1-2)

الحياة العراقية

السيستاني وعراق ما بعد السقوط (1-2)
د. صلاح عبد الرزاق
مقدمة
ربما كان من قدر العراق أن يكون له مرجع منفتح على الحياة العامة وشؤون الناس أكثر من انكبابه على طلابه ودروسه الفقهية والأصولية ، ومهتماً بطلاب حوزته وأمورهم ووكلائه وممثليه.
السيد علي السيستاني يعيش في العراق منذ عام 1951 وعاصر خلال أكثر من ستة عقود كل الأنظمة السياسية التي تعاقبت على العراق من العهد الملكي إلى جمهورية قاسم ، ثم جمهورية عارف، ثم حكومة حزب البعث في عهد البكر ثم فترة صدام التي دامت 24 عاماً. وشاهد كل المآسي والكوارث والمظالم والمعاناة التي مر بها الشعب العراقي وتهجير واعدام العلماء وطلاب الحوزة إضافة إلى مئات الآلاف من المعارضين لنظام صدام. كما أن السيستاني نفسه تعرض للاعتقال في أعقاب الانتفاضة الشعبانية في آذار 1991 ومورست معه فنون التعذيب النفسي والجسدي.
وعندما استلم دفة زعامة المرجعية الدينية عام 1992 بعد وفاة أستاذه المرجع السيد أبو القاسم الخوئي ( 1899- 1992) كانت المرجعية تعاني من آلام الحصار الأمني والاقتصادي الذي عاشه الشعب العراقي. فكان عليه انقاذ ما يمكن انقاذه من مدارس الحوزة العلمية وفضلائها وطلابها ليبقى النجف الأشرف منارة للعلم والفقه ، وقيادة تاريخية للمجتمع الشيعي تواجه حكومات الظلم والطغيان على مر العصور.
بعد سقوط النظام الصدامي أتيحت للسيستاني فرصة للتعبير عن ضمير الأمة والمواقف الحقيقية للشعب العراقي، ويترجم طموحات وآمال العراقيين تجاه الأحداث المتغيرة والمتسارعة والتي تكون الحاجة فيها ماسة إلى قيادة محنكة تنظر إلى المستقبل بكل ثقة وعزم . بعد سقوط النظام جاءت الإدارة الأمريكية بقواتها ومؤسساتها لتحكم العراق بالقوة وتفرض شروطها وقراراتها على سلطة عراقية وليدة بالكاد تنهض بالعراق من تحت أنقاض الحروب والتدمير والقتل والتهجير وكل صنوف العذاب التي مارسها صدام وأزلامه ضد العراقيين.
بقي السيستاني ثابتاً كالطود الشامخ ، لا تهزه التهديدات ولا الأزمات ، بل كان يتعامل معها بحنكة وصبر ووضوح . ولم يهتم بالظروف الآنية الشديدة وتحديات النظام الجديد والاضطرابات المناطقية وبدايات الفتن ومشاعر الانتقام من أزلام النظام البائد. إضافة إلى تصديه لمخططات الأمريكان وفرض سياستهم ومخططاتهم على العراق. فكان يستنجد بالأمم المتحدة لمواجهة الضغط الأمريكي ، وقد نجحت سياسته عندما صار للأمم المتحدة دور مؤثر. وكان سماحته يؤكد على دور الأمم المتحدة وميثاقها ، ويستقبل ممثلي السكرتير العام للأمم المتحدة في العراق. ويبعث الرسائل إلى الأمين العام كوفي عنان . كما أنه أصدر بياناً يعزي كوفي أنان بمقتل ممثله في العراق سيرجيو دي ميللو (1948- 2003 ) (1) حيث أكد فيها على أمله بأن (تتولى الأمم المتحدة دوراً مركزياً في إقامة الأمن والاستقرار في العراق خلال المرحلة الانتقالية، وتقوم بالإشراف على الخطوات اللازمة لتمكين العراقيين من أن يحكموا بلدهم بأنفسهم وتعود إليهم السيادة عليه) (2). هذا في الوقت الذي لم يلتق فيه السيستاني بأي مسؤول أمريكي أو بريطاني أو غربي عدا المسؤولين في المنظمات الدولية كالصليب الأحمر وغيرها.
كان للسيد السيستاني دوره في القيادي المؤثر في الأزمات والقضايا المصيرية التي واجهها النظام السياسي الجديد. وكان بحنكته يوجه وينصح ويسدد ويقترح ما يعالج به تلك المشاكل التي لا يبدو لها لها حل في الأفق أو تدخل في نفق مغلق. فلم يتردد في دعم النظام الجديد وتشكيل المؤسسات الدستورية ويدعم الانتخابات واختيار المرشحين الصالحين.
يبقى السيد السيستاني صمام أمان للعراق والمسلمين بما يحظى من مكانة عالية واحترام كبير في العالم. وستبقى بصماته واضحة في تأسيس النظام الديمقراطي في العراق. ويبقى معلماً للسياسيين والقيادات الدينية في كيفية تعامله مع أشد القضايا حساسية، وحرصه على أهمية احترام القانون وإنصاف كل المواطنين بلا تمييز على أي أساس كان.

ملامح سياسة السيستاني
خلال ستة عشر عاماً كان للسيد السيستاني مواقفه وبياناته وتصريحاته التي عبر من خلالها عن رؤية ثاقبة ونظرة حكيمة . ويمكن تلمس أهم معالم هذه السياسة وتأثيرها في المشهد العراقي والدولي:
1- أثبتت الأحداث أن المرجعية تعي جيداً المرحلة التاريخية التي تعاصرها بشكل تجعل المرجعية ترسم استراتيجية واضحة المعالم في التعامل مع الأحداث بروية وحكمة بعيداً عن الانفعال وردود الأفعال غير المحسوبة. إذ بدا من الواضح أن إصرار المرجعية على إجراء الانتخابات العامة كشرط لإضفاء الشرعية على أي عمل سواء تشكيل الجمعية الوطنية أو تدوين الدستور وما ينبثق منها من مؤسسات دستورية.
2- استيعاب المرجعية للظروف الدولية والموازنات السياسية والمصالح الاقتصادية والثقافية للقوى الكبرى في المنطقة.

وكذلك استيعاب الطرح السياسي والقانوني المتمثل في قرارات مجلس الأمن الدولي المتعلقة بالعراق ومستقبله والدور الأمريكي فيه. هذا الوعي السياسي جعل المرجعية تؤكد دائماً على ما ألزمت به القوى الكبرى أنفسها فيما يخص مستقبل العراق ورعاية العملية الديمقراطية التي تضمن الأمن والاستقرار السياسي والأمني، مما يؤدي إلى انسحاب القوات الأجنبية من العراق. إن المرجعية رفضت التعامل عسكرياً مع الاحتلال لكنها أكدت على العملية السياسية. واعتبرت أن الإلزام أي (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم) هي القاعدة في المرحلة الحالية التي يمر بها العراق، حتى تتحقق السيادة الكاملة للعراقيين على دولتهم.
3- التفاعل العميق والتأكيد الدائم على الحالة الوطنية العراقية ومصالح العراق ومستقبل الشعب العراقي وطموحاته وآماله، بما يضمن العدالة والمساواة لجميع أبناء العراق بلا تمييز. إذ بقيت المرجعية تشكل طبقة وطنية تدافع عن مصالح الشعب العراقي، وتقف ضد أي حاكم أو مشروع للظلم والقمع. لقد استوعبت المرجعية مختلف أطياف الشعب العراقي ومذاهبه وقومياته وأديانه. فقد أكد السيستاني على مشاركة غير المسلمين في الانتخابات ودعاهم لممارسة حقهم الوطني. كما كان يستقبل ويخاطب العرب والكرد، الشيعة والسنة، المسلمين والمسيحيين والصابئة. كما أبدى تفهماً واعياً للقضايا الأساسية مثل الفيدرالية ، حيث رأى أنه لا مانع لديه من إقامتها طالما أنها تمثل رغبة العراقيين.
4- استيعاب المرجعية للظروف السياسية واختلاف التيارات الفكرية الأيديولوجية ، وأنه لابد للجميع من صيغة سياسية وقانونية يجدون فيها الحريات والحقوق الدينية والحريات السياسية والثقافية والقومية. وهذا ما جعل المرجعية تتبنى المسار الديمقراطي دون أن تسميه. إذ أنها تمسكت بالشرعية الجماهيرية المستمدة من الانتخابات واختيار ممثلي الشعب ليقرروا ما يريده ناخبوهم ويرغبون بتحقيقه. كما كفلت لجميع التيارات السياسية حرية العمل السياسي، حتى العلمانيين وغير المسلمين طالما أنهم يحترمون القانون، ولا يتعدون على حقوق وحريات الآخرين. لقد شددت المرجعية على (مبدأ الشورى والتعددية واحترام الأقلية لرأي الأكثرية ونحو ذلك في الدستور الجديد) (3).
5- رغم إيمانها، كمرجعية دينية، بالدولة الإسلامية، لكنها لم تجبر أحداً على تبني هذا الخيار، ولم ترفع هذا الشعار أو تطالب بإقامتها. وكان بإمكانها القيام بذلك لوجود أحزاب إسلامية قوية ، ولوجود أرضية شيعية مستعدة لتبني أطروحات المرجعية. إن المرجعية تنادي بدولة هي أقرب للدولة الديمقراطية الدستورية، منها إلى الدولة الدينية الثيولوجية الشمولية التي يلعب فيها رجال الدين دوراً مركزياً حيث يسيطرون على جميع النشاطات العامة، ويتدخلون في الحريات الفردية، ويحددون الخيارات الفكرية والأيديولوجية. يؤيد هذه الفكرة نوح فيلدمان أستاذ القانون في جامعة نيويورك بأن (الديمقراطية الإسلامية أمر ممكن في العراق، ديمقراطية تضمن لهم ليس فقط حق الانتخاب، ولكن الحق بأن يصوتوا لقوانين مغروسة في المعتقدات والقيم والمثل الإسلامية. ويمكن للدولة أن تقر بالإسلام وتمول المؤسسات الدينية والتعليم الديني) (4). ويؤكد ريو مارك كيرشت من مؤسسة المشروع الأمريكي لبحوث السياسات العامة على أن: (أتباع السيستاني الأتقياء يمنحون ليس فقط الأمل الأفضل لنشوء الديمقراطية، ولكن ربما الأمل الوحيد) (5). يأتي ذلك في ظل فشل أو عدم تطور التجارب الديمقراطية في المنطقة.
6- استطاعت المرجعية كبح جماح رجال الدين المحسوبين على المرجعية والمتطلعين للعب دور أكبر من خلال الأجواء الديمقراطية والحريات العامة التي تضمنها العملية السياسية والقوانين النافذة في العراق اليوم. لقد منع السيد السيستاني وكلاءه من تولي أي منصب حكومي (عدا الأوقاف وهيئة الحج والعمرة)، كما منعهم من ترشيح أنفسهم في قوائم الأحزاب السياسية في انتخابات 15 كانون الأول 2005 العامة. لقد أصبح الفقيه والمرجع والخطيب وطالب الحوزة وأمام المسجد والحسينية رجالاً متخصصين في الدين والأحكام الشرعية يدلون بدلوهم حسب موقعهم وحسب حاجة الدولة والمجتمع إليهم. إذ يوجد العديد من رجال الدين، وبعضهم وكلاء للمرجعية، انتخبوا نواباً في الجمعية الوطنية، ويشاركون في مختلف لجانها الاختصاصية، حتى أن رئيس لجنة صياغة الدستور عالم دين.
7- منعت المرجعية نمو التطرف الديني الذي حاولت بعض التيارات الشيعية ممارسته بعد سقوط النظام. إذ كانت تؤكد دائماً على احترام القوانين التي تصدرها الحكومة، وأنها مقدمة على الاجتهادات الفردية في تطبيق الأحكام الشرعية. لقد رفضت المرجعية إجبار المرأة العراقية على ارتداء الحجاب، واعتبرت قرار ارتداء الحجاب أمراً تابعاً للمرأة ، وهي التي تتخذه باختيارها.

8- لقد تمكنت المرجعية من تجنيب العراق النموذج التركي العلماني الذي يلغي أي دور للدين في الحياة العامة. كما تفادت قيام دولة دينية على الطراز الإيراني حيث الطابع الشمولي هو السائد في الدولة. لقد منحت المرجعية الدين موقعه الطبيعي كنظام أخلاقي وهوية ثقافية للشعب العراقي. كما ساهمت في دعم الاتجاه الذي يقضي بعدم إصدار قانون يخالف أحكام الشريعة الإسلامية. إن موافقة أمريكا على الدستور العراقي الذي يمنح الإسلام دوراً بارزاً في الدولة، يعد انتصاراً للتيار الإسلامي من جهة. ومن جهة أخرى يشير على نضج واضح في الفكر السياسي الغربي الذي اعتاد على عداء الإسلام لأسباب تاريخية وعقائدية وفلسفية. إضافة إلى التجارب المريرة للتعامل مع الإسلام السياسي الذي برز فيه الطابع الأصولي والإرهابي، كما في إيران وأفغانستان والسعودية والباكستان ومصر. لقد أدركت أمريكا أن الإصرار على العلمانية يجعل الناس يتوجهون أكثر فأكثر نحو الإسلام المتطرف لأنها ستعطي مبررات مقبولة في مهاجمة ورفض المشروع العلماني حتى وإن كان ديمقراطياً. من جانب آخر فإذا لم يكبح الإسلاميون المعتدلون جماح العنف والتطرف، وإذا لم يتمسكوا بالخيار الديمقراطي فإن المسار الديمقراطي سيفشل في النهاية، ويكونون هم أول الخاسرين، لأنهم سيعودون إلى دوامة العنف والعنف المضاد من قبل الدولة، كما يحدث في بلدان إسلامية كثيرة. بقية …..

الهوامش
1- دي ميللو دبلوماسي برازيلي عمل في الأمم المتحدة لمدة 34 عاماً. قتل مع قرابة عشرين شخصاً بينهم عراقيين وأجانب بسيارة مفخخة في 19 آب 2003 . وقد تبنى العملية تنظيم الجهاد والتوحيد بزعامة أبو مصعب الزرقاوي الذي أصبح فيما بعد جزءاً من تنظيم القاعدة.
2- بيان مكتب السيد السيستاني في 22 جمادى الآخرة 1424 هجري
3- من تصريح للسيد السيستاني ، محمد الغروي / المرجعية ومواقفها السياسية/ ص 93 ، نقلاً عن جريدة المستقبل في 21/8/2003
4- إيان بوروما/ ديمقراطية إسلامية للعراق؟ صحيفة المدى/ العدد: 275 الصادر في 16/12/2004 / ص 5
5- المصدر السابق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى