أغاني الربيع
هادي جلو مرعي
كانوا يغنون لمواسم الفرح، وصرنا نبكي لمواسم الحزن.مراثينا عنوان لنا نعرف بها، ويفهمنا الآخرون من نوع ألحانها الخالد الذي يتمجد به الناس، وأمقته حد الحقد لأنه ضيع حياتنا وآمالنا، وتركنا نهبا لوجع لاينتهي، وكبلنا بتهم لافكاك منها، وكأن قدرنا أن نكون شركاء في جريمة صناعة الحزن وضحايا لها.
كان فريد الأطرش السوري الهارب من إمارة ابيه السلطان الى أحضان مصر يستعد للربيع بأغاني فرح يضع لها أعذب اللحن. فقد كان فريد، وعلى عكس مايظنه الناس ملحنا أكثر من كونه مطربا، وحين يقول في أغنية الربيع:
آدي الربيع عاد من تاني
والبدر هلت أنواره
كان الجمهور يطرب للموسيقى، ولما يصدره العود بيد الأطرش السلطان قبل أن يطرب للكلمات. ومثل فريد غنى لبنانيون وسوريون ومصريون للربيع وللفرح. وفي العراق يمتهن الأكراد صناعة الفرح والرقص والصعود الى الجبال ومغازلة السهول، وهي خصال يفتقدها أهل الوسط والجنوب المنشغلون بالمراثي والبكاء طوال العام.
لم ننجح كعراقيين في التفريق بين ضرورات الحياة، وبين وجدانياتنا وعذاباتنا التي صنعها قدر مشؤوم سببه سياسات فاسدة، وثورات سرعان ماتخمد بعد أن تكون جثث الثوار مزقت، ورؤوسهم قطعت، ونساؤهم سبيت، وخيمهم أحرقت، وتاريخهم شوه، وذكرهم تحول الى سباب وشتائم على منابر بالية، ثم بمرور الزمن صاروا ذكريات فجيعة تستدعي حزن ملايين البشر في المعمورة، وسواد يغطي الأشياء.
في العراق يبدو مظهر الحزن جذابا، وعطره فواحا، وأناقته معهودة، وشكله يخلب الألباب التي تشتهيه بإستخذاء. وتنتظره الجموع كما لو أنه البابا اطل من نافذته على ساحة القديس بطرس مع إني، وحين إنتظرت لبعض الوقت تحت تلك النافذة، وكان المطر لذيذا، قلت لرفيقي العراقيين: صحيح إننا لانستحي من أنفسنا، ونحن نضيع الوقت في إنتظار واحد من البشر لايمكنه تقديم البركات لنا ونحن نفتقدها في انفسنا، ولا الطمأنينة التي أضعناها في بغداد، ولم نستطع الحصول عليها ونحن في النجف، وفي كربلاء، وفي سامراء، وفي الكاظمية، وقرب الكعبة، وعند ضريح النبي في المدينة، و عند مقامات القاهرة، ومشهد، ودمشق.
على العكس من حال الحزن الأنيق الحاكم يأتينا الفرح رث الثياب، لم يغتسل من أيام طويلة، ووجهه شاحب، وجسده نحيف، يواجهه الناس بالسخرية والإستهزاء، ثم ينفرون منه، ولايفتحون له بابا، فأبوابهم مشرعة للحزن وحسب.