معصوم للشعب العراقي: لم أكن ممثلا لمكون أو طائفة أو حزب بل رئيسا لكل العراق
الحياة العراقية
وجه رئيس الجمهورية السابق، فؤاد معصوم، الأربعاء، كلمة إلى الشعب العراقي بمناسبة انتهاء مهامه كرئيس للجمهورية، مؤكدا فيها لم أكن ممثلا لمكون أو طائفة أو حزب بل رئيسا لكل العراق.
في ما يلي نص الكلمة:
“أيُها العراقيونْ جميعا،
أبناء شعبنا العزيز،
بمناسبة انتهاء مهامنا الرسمية رئيسا للجمهورية، أعرب عن أصدق مشاعر الشكر والتقدير لكافة أبناء شعبنا العزيز على كل ما منحوني إياه من ثقة ودعم كانا سندا لي في النهوض بمسؤولياتي الدستورية خلال السنوات الأربع المنصرمة كرئيس للدولة ورمز لوحدة الوطن وممثل لسيادة البلاد، ومكلف بالسهر على ضمان الالتزام الكامل بالدستور، والمحافظة على استقلال العراق، وسيادته، ووحدته، وسلامة أراضيه، وفقاً لأحكام الدستور.
وإذ يحل موعد اختتام الأمد الدستوري الكامل لمسؤوليتي هذه والتي كانَ لي شَرَفُ اسْتِلامِ مَقاليدِها وتحمل أعباء أمانتها بعد أن أوكلت لي طوال ما ينيف على سَنَواتْ أربع مضت، أشعر بارتياحٍ وفخر وضمير مطمئن، لما حققته من نجاح في قيادة بلدي الى بر الأمان بعد تمكينه من اجتياز كل تلك الأخطار التي كانت محدقة به، وأيما إحداق، عند استلامنا المسؤولية في مرحلة هي بلا ريب أصعب وربما أخطر فترة في تاريخ بلادنا المعاصر حيث كان قد سبقها تمكن تنظيم داعش الإرهابي من احتلال عدة محافظات عراقية وخاصة ثاني اكبر محافظات البلاد نينوى وعاصمتها الموصل واقتراب مجرميه من العاصمة بغداد في ظُروف دَقيقَةً وَصَعْبَةْ، وفي ظِلِّ انهيار خطير في أسعار النفط عالميا أدى إلى خفض عائداتنا منه إلى الربع تقريبا، وبالتزامن مع انْقِسامات عَميقة وإخفاقات مؤسفة نتيجة حداثة تجربتنا الديمقراطية وحتى هشاشة بعض أسسها بسبب تجذر نظام المحاصصة واستفحال وباء الفساد واستمرار مساوئ التركة الثقيلة الموروثة عن الأنظمة الدكتاتورية البائدة على كافة الصعد.
ومُنذُ 24 تموز 2014 ولِغايَةِ اليَومْ، عَمِلتُ من موقعِ مسؤولياتنا الدستورية بفعالية وقوة، لكن بتجرد ودأب صامت، على مُواجَهَةِ وتذليل كل الصِعابَ بِوَعْيٍ وصَبرٍ وإِرادَة ثابتة، وَلَمْ أتردد قيد أنملة في الوفاء بواجباتي في حماية الدستور ورعاية مصالح العراقيين كافة من كل المكونات دون تمييز كما في تعزيز المواجهة الوطنية للأَزْماتِ والأخطار أَلتي عَصَفَتْ ببلدنا ومنطقتنا.
فطوال أربع سنوات من رئاستنا للجمهورية، وعلى كل مستوياتها ومجالاتها، لم يخطر على بالنا أبدا أن نكون ممثلا لمكون أو طائفة أو حزب، بل رئيسا لكل العراق، ومدافعا صادقا وأمينا عن تطلعات شعبنا العادلة بالحرية والحياة الكريمة، وعن تنوع بلادنا الفكري والثقافي والحضاري، وعن عودتها إلى مكانها اللائق بين الأمم.
ولا يسعني وأنا أغادر مسؤولياتي الرئاسية، إلا أن أؤكد من جديد دَعْوَتي التي لم أكلّ منها يوماً، الى لزوم التمسك بالدستور، وإعلاء مبادئ وحقوق المواطنة، وانجاز المصالحة المجتمعية عبر إرساء حِوارٍ جاد ومُسْتَدَامْ وتسامحي في الجوهر بين كل أبناء الشعب وليس بين القادة السياسيين وحسب، يَكونُ وَحدَهُ إلى جانب قوة الإرادة والوطنية والتمسك بالقيم الإنسانية، صمام الأمان الضامن لحَلِّ أصعب المشاكل وتذليل العقبات، وللسير قدما بالاتكال على الله، والثقة بالشعب نحو حماية العراق المستقل الموحد، وضمان فعلي لحقوق كل العراقيين فيه بدون تمييز وفي مقدمتها حقوق المرأة التي نص عليها الدستور.
وبداهة لم تكن مهامنا سهلة الانجاز على الدوام. بيد أَننا لم نترك لأي من الصعوبات والمشاكل الموروثة أو الطارئة أَن يُشَكِّلَ عَقَبَةً كأداء أمام تطلعاتنا وتوجهاتنا. ولقد كنا مؤكدين وداعمين لضمان حق المواطنين بالتظاهر والاجتماع والتعبير السلمي عن مشاعرهم ومطالبهم بتحسين شروط حياتهم الاقتصادية والخدمية أو رفضهم مظاهر الفساد والإحباط وقدمنا توصيات عملية لمعالجة ذلك أحيانا كما حصل بشأن أحداث محافظة البصرة مؤخرا البصرة فيما لجأنا إلى إيقاف بعض التشريعات التي تمس الحريات والحقوق الدستورية.
وكما أَن وَحدَتَنا الوطنِيَةْ، تَحتَلُ الأَولَوِيَة، فإننا بذلنا كل جهد من أجل تقريب وجهات النظر والوساطة لحل أي مشكلات أو خلافات بين الدول الشقيقة وغيرها، مدفوعين بعامل الصداقة والعلاقات التاريخية والمصالح المشتركة والفهم الاستراتيجي الواثق.
ونحن نفخر أيضا بتأسيسنا وتكريسنا لسياسة كسب الأصدقاء، منطلقين من الحرص على أن تكون علاقاتنا مع الجميع جيدة وأن لا ننظر إلى هذه الدولة أو تلك بعيون دولة أخرى، لا سيما ونحن غير مُنعزلين عَن مُحيطِنا الإقليمي والدولي وتعقيداته الجُغرافية والسِياسية والدِينية ومدركين بأن كافة المشكلات والنزاعات يمكن حلها سلمياً وبالحوار المتبادل.
لقد اعتبرنا على الدوام ‘ن أي خرق أو تجاوز على الدستور هو اعتداء على أسس إرادتنا المشتركة، كما سعينا بأناة وصبر وإصرار إلى جمع كل الطاقات الوطنية والدولية الصديقة لتلبية متطلبات السنوات الأربع الماضية وتركزت على دحر الإرهاب وعودة النازحين وإعادة الإعمار وتعزيز الوحدة الوطنية وإعلاء مكانة العراق الدولية ونشر الاستقرار الإقليمي وتطوير النظام الديمقراطي الاتحادي الدستوري الذي يتطلع له كل المواطنين.
ولقد عملنا بعزم وإصرار على منح أولوية قصوى لإنجاز المسؤوليات التي نصت عليها المادة 73 من الدستور الخاصة بصلاحيات رئيس الجمهورية وتجسدت انعكاساتها في عدد من المكاسب الكبرى لعل ابرزها:
– عملنا المتواصل بل اليومي لتوحيد كلمة العراقيين وتمتين علاقات التفاهم والتكامل بين الرئاسات الثلاث والسلطة القضائية عبر مبادرتنا بتنظيم اجتماعات دورية او منتظمة لذلك مركزين على اولوية تطبيق بنود الدستور وحقوق المواطنين ووحدة الموقف الوطني حول اي احداث تستجد في المجالات الوطنية والاقليمية والدولية..
– سعينا الى حل اي مشاكل بين الحكومة الاتحادية وحكومة اقليم كردستان وتقريب وجهات النظر بينهما وكذلك بين اطراف العملية السياسية وممثلي المكونات العراقية، واشراكها في مزيد من الحوار الوطني لحل اي خلافات او مشاكل عالقة او طارئة.
– بذلنا جهودا متواصلة من اجل تعزيز الممارسات الديمقراطية في حياتنا السياسية كان من ابرز نتائجها تعجيل المصادقة على قانون الاحزاب السياسية من جهة وتقديم قانون جديد للانتخابات وكان كفيلا بضمان عدالة الانتخابات وحريتها ونزاهتها لولا ان مجلس النواب اغفل بشكل لا دستوري مناقشته للتصويت عليه، كما اغفل تشريع قانون رئاسة الجمهورية الذي بغيابه تظل الرئاسة تعاني مشاكل كثيرة في ممارسة عملها الدستوري.
– عملنا بدأب ومثابرة على حشد الدعم الدولي لبلادنا من اجل القضاء على الارهاب كما كنا السباقين في الدعوة الى مؤتمر دولي لاعمار العراق، وجمعنا كل امكانياتنا من اجل ايصال صوت العراق الى المحافل الاقليمية والدولية دفاعا عن مصالحنا وحقوقنا الوطنية ومنها حقوقنا المائية المتجاوز عليها من قبل بعض دول الجوار وكذلك النجاح بحشد دعم المجتمع الدولي لإدراج ملف الأهوار والمناطق الأثرية العراقية ضمن لائحة اليونسكو للتراث العالمي.
– اولينا اهتماما خاصا لدعم القطاعات الشبابية والنسوية والنقابية والرياضية والصحفية والتعليمية، وكذلك لدعم الاقتصاد الوطني بشتى السبل ومنها مصادقتنا على قوانين اساسية من بينها قانـون شركة النفط الوطنية العراقية و”قانون هيئة الطاقة الذرية العراقية” و”قانون العمل ” وقانون “هيأة المنافذ الحدودية” الى جانب دعم القطاع الخاص وتوفير التشريعات والمناخات والحماية القانونية للإستثمارات الأجنبية.
كما عملنا بفاعلية من اجل دعم السلطة القضائية وتعزيز استقلالية وحصانة القضاء بمصادقتنا على تشريعات مهمة في هذا الشأن لا سيما “قانون مجلس القضاء الأعلى” و”قانون مجلس الدولة” و”قانون المعهد القضائي” وقانون “العفو العام” و”قانون جهاز مكافحة الارهاب”و”قانون هيأة الحشد الشعبي” وقانون تخليد تضحيات شهداء الحرب ضد عصابات داعش الإرهابية وتسريع انجاز معاملاتهم والعناية الفائقة بجرحاهم، دون اغفال المصادقة على المراسيم الخاصة باعدام المتهمين بجرائم وحشية او جرائم رهابية ومنها كافة أحكام الإعدام الخاصة بجريمة سبايكر.
يا ابناء شعبنا الابي،
إنَ مُمارَسَةَ صلاحياتنا، خِلالِ السنوات الاربع الماضية، وبعيدا عن اي تَدخُلِ خارِجيْ، كَشَفَتِ جملة من الثَغْراتِ الدُستوريَةْ كانت سببا في عرقلة واعاقة عمل الدولة ومؤسساتها بشكل سليم. لذلك نرى ان الدستور باعتباره القانون الأساسي والأعلى، بحاجة ماسة الى المراجعة والتعديل بهدف التطوير ومعالجة الثغرات والنواقص ومواكبة التطورات القانونية العالمية فضلا عن ضرورة ان يكون ضامنا للإجماع الوطني الكامل والفعلي حوله ومعبرا عن لزوم قدرته الآنية والحيوية على معالجة الازمات الطارئة والمنعطفات الخطرة.
ويسعدني ان اغتنم هذه الفرصة للتأكيد مجددا، ان صيغة دستورنا العراقي الذي كتب في وقت عصيب تتميز بالتقدم والمتانة بشكل عام. بيد ان كل البلدان الديمقراطية حتى الاكثر تقدما احتاجت الى سنوات طويلة حتى تصل الى دساتير ضامنة للديمقراطية الحقيقية. ومن هنا ضرورة التطوير المتواصل بل الدائم لدستورنا ايضا. ولا نتردد في القول هنا ان كل أزماتنا السياسية الحالية هي أساسا ذات جذر دستوري او قانوني، فاقمها غياب لجنة التعديلات الدستورية عن الوجود دون ان تنجز مهامها، ووجود تفسيرات متباينة حول هذه المادة الدستورية أو تلك ما سمح بالتدخل في اساءة توظيفها احيانا. والحال بدون احترام الجهات الرقابية التفسيرية للدستور وبدون الإجماع على دستور وطني شامل تستمر الأزمات في العملية السياسية الامر يستوجب عاجلا خطوات رصينة ودستورية لأزالة كل مواطن الضعف في الدستور لاسيما في اهم المواد المثيرة للخلافات و إزالة اللبس في الصياغات وتجنب اللغة الفضفاضة التي يمكن تفسيرها بأشكال شتى او حسب الرغبات بينما ينبغي ان يكون هناك تفسير واضح وثابت يصد تدخلات ورغبات الكتل او السلطات المختلفة.
وعلى العموم إننا جميعا لدينا ملاحظات على الدستور، لكنه الآن هو الضامن الوحيد لحماية بلادنا وشعبنا ومستقبلهما من الاخطار. وإننا من موقعنا وبموجب مسؤوليتنا الدستورية نؤكد وبكل قوة على أهمية الالتزام بالدستور نصا وروحا كأساس لأية مواقف او اجراءات.. وايضا كوسيلة فعالة وعادلة لحل كافة المشاكل كما نؤكد على ضرورة احترام نص وروح الدستور في العلاقة بين السلطات الثلاث، وفي اصدار القوانين والتشريعات وكذلك في تنفيذها بما فيه ضمان صون الحياة الدستورية وحماية حقوق الانسان واحترام مكانة وحقوق المرأة والمكونات كافة وكل ما من شأنه تطوير الممارسة الديمقراطية وحماية وحدة العراق وسيادته.
وختاما واذ اغادر مسؤولياتي الرئاسية، أشعر بغبطة وانا ارى بلدي يتقدم بعزم وطيد نحو اقامة دولة الحقوق والمواطنة وكلي ثِقَةْ، بِوَعِي وقدرة شعبنا على تجاوز كل الصعاب التي تواجهه وبان العراق سائر نحو استرجاع مكانته اللائقة والتاريخية للمشاركة الحيوية في احلال السلم والازدهار والتقدم في المنطقة والعالم.
كما لا يَسَعُني في هذهِ المُناسَبَةْ، إِلا أَن أَحيي اولئك الذينَ وقفوا الى جانبي وعَمِلوا معي وتحملوا الضغوط والتضحيات من اجل ِبِنَاءِ وَطَنٍ ديمقراطي تَعَدُدِيْ.
كما احيي واهنئ الرئيس الجديد الدكتور برهم صالح على انتخابه لهذه المسؤولية متمنيا له كل النجاح في انجاز مهامه الكبيرة.
عَهدي لَكُم، أَنني سأظل بَينَ صُفوفِكُمْ، مواصلا خدمة شعبي وبلدي، مُتَطَلِّعاً مَعَكُم إِلى ما يجعل العراق في مَصافِ الدُوَلِ الديمقراطية المستقرة والمزدهرة والمُتَقَدِمَةْ”.