مقتل الخيال
هادي جلو مرعي
يلعب الصبية في مكان من القرية غير البعيدة عن المدينة، لكنهم لم يتعودوا تجاوز النهر المار منها، ويفصلها عن الحقول الزراعية، ولايملكون صورة عن تلك المدينة التي تأتي منها بضائع وأطعمة، ونادرا ماتصل منها الأخبار بالرغم من كونها صغيرة، وسوقها غير مكتظ، ولكنها مدينة على أية حال، وهم يجهلونها. كان الأفق ضيقا ليس لأن الناس لاتبحث عن أفق مفتوح لكنها تجهله تماما، وهي بإنتظار ومضة تنير ليل الجهل الطويل، وحين كان الغد يشرق بشيء جديد يواجهه الجهلة، أو الذين تعلموا كيف يقيدون عقولهم بالمنع والتحريم والتجريم والتخويف، فتضيق الآفاق أكثر الى أن تتفجر ينابيع المعرفة والحكمة والعلوم الحسية، وتنهض الأمم بتقنيات حديثة نقلت البشرية الى عالم الواقع الذي صارت الأحداث والإبتكارات تتوالى فيه، وتبدو حاكمة للعقل والوجدان البشري.
أتحدث الى صديقي عبر واتساب، وهو في سان فرانسيسكو، وأطلعه على سقف غرفتي الذي يتآكل، بينما هو يتحدث عن برودة الأجواء، ويأسف لصورة السقف، ويضحك لأني وصفت له أجواء قريتي والتراب والحرارة، ولكني لم أتخيل شيئا فخيالي متوقف لأني أعرف سان فرانسيسكو جيدا، فهي غرب الولايات المتحدة على شاطي المحيط الهادي، والسبب أني قرأت عنها كثيرا، وشاهدتها في التلفاز كثيرا مثلها مثل عشرات المدن في العالم، ولم أعد أستمتع بشيء فكل شيء مكشوف وأحفظه، ولم يعد الخيال ممكنا، ولست بحاجة إليه، فمايكون في المتناول لايعود ينفع معه خيال.
هل نجحت المعرفة الحديثة في تحويلنا الى آلات، وقتلت خيالاتنا، وهل إنتهى زمن الكتابة الأدبية والشعر والهرب مع الحبيبة فوق أسطح الغيوم البيضاء، ونسج صور في الدماغ ليست موجودة في الحقيقة؟
أين تلك القرية، وذاك الحي، وتلك الأودية والجبال البعيدة والبراري التي لانعرف ماوراءها. فقد كنت في زمن ما أدخل المدينة، فلاأجرؤ على تخيل ماوراءها إن كان بحرا، أم نهرا، أم اراض مفتوحة بلانهاية، وهاهي الطائرة توصلني الى باريس ببضع ساعات، بينما أقطع أمريكا من شرقها على الأطلسي، الى غربها على الهادي، وأجوب كندا بالحافلة رغم مساحاتها المترامية، وصار بإمكاني رؤية قريتي وأنا في فلوريدا.
مقتل الخيال وصف حقيقي لمانحن فيه الآن من تحولات كبرى، وحين يقتل الخيال لانعود سوى آلات تنتظر لحظة توقفها عن العمل لترمى في مستعمرة من مجموعة قبور تطوى فيها تلك الآلات البشرية.