المفاسد …
المُفاسدة …
حسن النصار
يَتَفاسدُ الحاكم والمحكومون بعضهم مع بعض ، فيفسد احدهما الاخر في البر والبحر ، والمناصب ، والمنافع ، والرشاوى والاخلاق . وما يفسده الحاكم من اخلاق الناس ، ليس باقل مما يفسده الناس من اخلاق الحاكم . والبادئ اظلم .
وكما ان السمكة لا تطير في الهواء ، والطير لا يسبح في الماء ، فان الحاكم الفاسد له بيئته الحيوية الخاصة ، التي تنبته ، وترعاه ، وتنتجه ، بكامل جشعه ، وخيانته ، وسرقاته ، وفساده ، وقضمه لمال الله ومال عباده ، قضم الإبل لنبتة الربيع .
عشيرته تقول عنه : نفع أهله ولم يقصر معنا !!
حزبه يقول : لقد نفع الحزب وكان يصرف عليه !!
عائلته تقول : لم يقصر معنا !!
والمجتمع يقبله ، ويقبل عطاياه ، وهداياه ، ودعواته ، ويعظمه في المجالس ، ويقصده في الحاجات ، فكيف لا يفتن في نفسه ، ويفسد في عمله ، ونحن المأمورون في ديننا ان نلاقي اهل المعاصي بوجوه مكفهرة !
اذا أردت ان تفتش عن جذور الفساد ، فلا تفتش عنه في بضع مواقع في دولة ، او في سيرة هذا السياسي المشبوه او ذاك ، بل فتش عنه في المدرسة الفاسدة ، والعائلة الفاسدة ، والعشيرة الفاسدة ، والحزب الفاسد ، والمجتمع الفاسد .
لا يقنع الحاكم بالفساد ، لان مشروعه الاخير هو الإفساد ، وهو لا يامن على نفسه في البيئة الصالحة ، لان البيئة الوحيدة التي تحميه ، وتحمي مشروعه ، هي البيئة الفاسدة لا غير . يعمد رجل الدولة الفاسد الى افساد كل ما يحيط به ، ويجد في صناعة النسخ الصغيرة عنه ، وصباغة الوجوه التي تحيط بِه ، بلون وجهه الاسود ، عامل ترضية للنفس ، وتعميم للمصيبة ، وكي لا يستوحش من طريق الفساد لقلة سالكيه !
هو من أفسدهم ، وهم من أفسدوه !
أفسدهم : بغضه الطرف عن سرقاتهم ، وابقائهم في مواقعهم ، وترقيتهم ، واحتضانهم ، واستخدامهم ، وإشراكهم في الرشاوى ، وبهداياه لهم ، وعطاياه ، حتى وهو يبني لهم مسجداً من المال الحرام !
كمطعمة الأيتام من كد فرجها
مكانك لا تزني ولا تتصدقي
وهم من افسدوه : بتملقهم له ، وسكوتهم عنه ، وتعظيمه في المجالس ، وقبول هداياه ، وخيرياته الزائفة ، والصلاة في مسجده ، او الانتماء الى حزبه ، او الركض وراء موكبه ، وتقبيل كفيه .
لو تعاملنا معه كما تعامل اهل المدينة مع الثلاثة الذين خلفوا حتى ضاقت عليهم الارض بما رحبت ، وضاقت علهيم انفسهم . او كما قال الامام علي عليه السلام : أدنى الإنكار ان يُلقى اهل المعاصي بوجوه مكفهرة . لكن الناس يفرشون لهم الابتسامات العريضة ! التي تحلم بها زوجاتهم وأطفالهم وما ملكت إيمانهم !!
لو تعاملنا مع الفاسدين في العراق ، كما تعامل الفرنسيون من شارل باسكوا ، وكما تعامل الالمان مع هلموت كول ، او كما تعامل البريطانيون مؤخرا مع وزير الطاقة والتغيّر المناخي البريطاني كريس هون ، بعدما تم اكتشاف استخدامه اسم زوجته بمخالفة سرعة بحقه هرباً من تعرّضه لعقوبة حظر قيادة السيارة !
ان الصيحة قد تخيف فاسد او فاسدين او ثلاثة ، لكن التربية ، وتحمل المسؤولية الجماعية ، والمكافحة العلمية ، والاجراءات السليمة البعيدة المدى ، هي من سيقضي على أمة محتملة من الفاسدين .
سئل الحق يوماً : اين كنت في صولة الباطل ؟ فقال : كنت أجتثه من الجذور .
لا فائدة ان يشتم الفاسدُ فاسداً ، او يتظاهر الفاسدُ ضد فاسدٍ مثله ، او ان يتولى فاسد حقيبة وزارية أفرغها فاسد قبله !
كم من قائم ليس له من قيامه الا السهر ! وكم من صائم ليس له صيامه الا الجوع والعطش ! وكم من متظاهر ليس له من تظاهره واعتصامه الا حرارة الشمس وخراطيم المياه والغاز المسيل للدموع .
في سيرة العادل العظيم علي بن ابي طالب عليه السلام أن احد الناس اقبل يمشي معه، وهو عليه السلام راكب، فقال له : ارْجِعْ، فَإِنَّ مَشْيَ مِثْلِكَ مَعَ مِثْلِي فِتْنَةٌ لِلْوَالِي، وَمَذَلَّةٌ لِلْمُؤْمِنِ .
فيا معاشر من يحاربون فروع الفساد ويتركون أصوله ، وَيَا معاشر من ينشغلون بمظاهر الفساد عن حقائقه ، خذوا بنصيحة علي بن ابي طالب ( ع ) :
ولا تفتنوا الوالي
ولا تذلوا انفسكمالمفاسد …